حروب اللاجيوش النظامية- المليشيات كبديل استراتيجي إقليميا ودوليا.

المؤلف: محمود سلطان11.10.2025
حروب اللاجيوش النظامية- المليشيات كبديل استراتيجي إقليميا ودوليا.

ربما لا يزال من المبكر الجزم بما إذا كان العالم سيولي اهتمامًا متزايدًا بدور "الجهات الفاعلة الصغيرة" في حسم الصراعات، وهي الأدوار التي تعجز القوى الكبرى التقليدية عن إنجازها، وذلك بعد انقضاء أتون الحرب في غزة. وبتعبير آخر أكثر وضوحًا: هل ستشهد غزة نهاية حقبة "وزارات الدفاع" لتفتح الباب واسعًا أمام حقبة جديدة من "حروب ما بعد الجيوش النظامية"؟!

من الصعب الإقرار بهذه الفرضية بشكل قاطع، خاصة في الدول "الضعيفة" التي يساورها القلق حيال وجود تنظيمات خارجة عن سيطرتها الرسمية، على الرغم من أن هذا الضعف بالذات يتيح المجال لتأسيس ميليشيات موازية للجيوش النظامية.

إعادة تدوير الميليشيات

قد تكون "كورين دوفكا"، خبيرة منطقة الساحل في منظمة "هيومن رايتس ووتش"، مصيبة في تحذيرها من أن هذه التنظيمات "تغلبت على جيوش المناطق، واستغلت الجغرافيا الوعرة، والحكم الضعيف والفاسد في كثير من الأحيان".

ومن أبرز الأمثلة الصارخة على ذلك، سيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية /داعش" في عام 2014 على مساحة شاسعة تقدر بسبعة آلاف وخمسمئة ميل، أي ما يعادل 12 ألف كيلومتر مربع من الأراضي العراقية، وانهيار الجيش العراقي الذي كان مجهزًا بأحدث الأسلحة الأمريكية.

ثم تكرر هذا السيناريو في "بورما" و"مالي" في عام 2022، وفي جمهورية أفريقيا الوسطى (حيث يتواجد 2000 مرتزق من فاغنر)، وفي أفغانستان (حيث توجد أقلية الهزارة، وميليشيات الفاطميين الأفغانية المنتشرة أيضًا في دول أخرى تعاني من الهشاشة، مثل سوريا واليمن والسودان) وإثيوبيا (حيث تنشط 10 ميليشيات محلية) والكونغو (وميليشيات إم 23).

إلا أن الدول والقوى الإقليمية الكبرى، فطنت إلى إمكانية "إعادة تدوير" فكرة الميليشيات، بأن تقوم أجهزتها الأمنية بتأسيسها وتسليحها، وتكليفها بمهام قتالية نيابة عن الدولة، في مناطق الصراعات التي تمتد إليها مصالحها الحيوية، متجنبة بذلك الأعباء الأخلاقية والقانونية المترتبة على تصرفات هذه الميليشيات التي تخضع لإشرافها السري وغير المباشر.

تشير دراسة للمركز الأوروبي لمكافحة الإرهاب والاستخبارات إلى أن الميليشيات يمكن أن تكون بمثابة "أذرع" تقاتل بالوكالة لصالح أطراف إقليمية أو دولية في النزاعات والحروب، وقد تتقاتل هذه الميليشيات فيما بينها أو تسعى لفرض سيطرتها على الدولة، وبالتالي تعزيز النفوذ الإقليمي من خلال نهج غير مباشر وأقل تكلفة.

في الماضي، قام البريطانيون بتأسيس ميليشيا كينية محلية تحت اسم "الحرس الوطني الأفريقي" لقمع انتفاضة "الماو ماو" في الفترة ما بين عامي 1952 و 1960.

الرجال الزرق

على الرغم من امتلاك الصين لأسطول بحري يفوق حجمًا نظيره الأمريكي، تشير تقارير غربية إلى أن بكين تعتمد على ميليشيات بحرية تسمى "الرجال الزرق الصغار"، تنتشر في بحر الصين الجنوبي لتنفيذ مهام محددة بهدف تجنب مواجهة عسكرية مفتوحة مع واشنطن.

وقد استخدمت الصين هذه الميليشيات البحرية في عملياتها التي أدت إلى السيطرة على منطقتي شعاب "ميجي ريف" و "سكاربورو شول" المتنازع عليهما أيضًا مع الفلبين، في عامي 1995 و 2012 على التوالي.

وفي هذا السياق، سلكت الولايات المتحدة الأمريكية هذا المنحى منذ منتصف التسعينيات، وتواترت التقارير التي تؤكد أنها استثمرت ما يقرب من 300 مليار دولار في (12 ميليشيا) خاصة في الفترة من عام 1994 إلى عام 2007، وهو استثمار هائل، ولكنه يعتبر في نظر العديد من البلدان استثمارًا مجديًا، لأن هؤلاء "المقاولين" تلقوا تدريبًا جيدًا، ويحضرون معداتهم الخاصة.

كما شهدت الفترة نفسها تأسيس أول شركة مقاولات عسكرية خاصة تحت اسم "بلاك ووتر" في الثلث الأول من تسعينيات القرن الماضي على يد ضابط البحرية السابق "إريك برينس"، وقد حصلت على أول عقد رسمي لها من الحكومة الأمريكية في عام 2000 بعد تفجير المدمرة الأمريكية "يو إس إس كول".

وقد ارتكبت هذه الشركة مجازر مروعة في العراق، مثل مجزرة ساحة النسور في بغداد عام 2007، وتعاظم حضور شركات المقاولات العسكرية الخاصة العاملة في العراق حتى بلغ عددها نحو 181 شركة أمنية يعمل بها ما يقارب 160 ألف شخص في العراق عام 2007، وهو ما كان يعادل تقريبًا إجمالي القوات الأمريكية المتواجدة في ذلك الوقت.

طموحات وإنجازات

وفقًا لصحيفة "أتلانتيك"، يعتبر التعاقد مع المقاولين نشاطًا تجاريًا ضخمًا، ففي السنة المالية 2014، وبينما كانت حربا العراق وأفغانستان مستمرتين، خصص "البنتاغون" مبلغًا قدره 285 مليار دولار للعقود الفيدرالية، وهو مبلغ يفوق ما تلقته جميع الوكالات الحكومية الأخرى مجتمعة، إذ كان يعادل 8٪ من الإنفاق الفيدرالي، وثلاثة أضعاف ونصف ضعف ميزانية الدفاع البريطانية بأكملها، وحوالي 45٪ من هذه العقود كانت مخصصة للخدمات، بما في ذلك المقاولون العسكريون الخاصون.

من ناحية أخرى، كانت ميليشيات "بلاك ووتر" الأمريكية مصدر إلهام لصناع السياسات الأمنية الروسية، وإن كانت متأخرة بما يقرب من 20 عامًا عن التجربة الأمريكية في هذا المضمار، حيث تأسست شركة "فاغنر" في عام 2014 على يد رجل الأعمال الروسي "يفغيني بريغوجين" المعروف بـ "طباخ الرئيس" كشركة "غير شرعية"، ولكنها تعمل تحت الولاية الروسية الرسمية وتعمل "بالباطن" لصالحها.

وتمارس "فاغنر" مهامها كوكيل لطموحات روسيا القارية دون إشراك الحكومة الروسية رسميًا في المعارك والحروب، وهو ما يعزز قيمة "فاغنر"، حيث تتيح لموسكو تحقيق أهدافها دون تكلفة كبيرة في الوقت نفسه.

ولهذا السبب، صرحت "كيمبرلي مارتين"، الأستاذة في كلية "بارنارد"، في شهادتها أمام الكونغرس الأمريكي في عام 2020، بأن إبقاء "فاغنر" غير شرعية وفي حالة من الغموض في روسيا، سمح للكرملين بأن ينأى بنفسه عن أية تصرفات شائنة أو محفوفة بالمخاطر تتخذها هذه المجموعة، وقد تجلى ذلك بوضوح عندما قتل المئات من مقاتلي "فاغنر" خلال معركة شرسة ضد القوات الأمريكية في سوريا عام 2018، والتي أسفرت عن مقتل نحو 300 من مرتزقة "فاغنر".

علاقات ملتبسة

تجدر الإشارة إلى أن إسرائيل تأسست على يد ميليشيات/عصابات مسلحة (بار جيورا، الإرجون، شتيرن، اللواء اليهودي، والهاجاناه)، وهي العصابات التي شكلت الجيش الإسرائيلي لاحقًا في عام 1948.

في ذلك الوقت، حاربت إسرائيل الميليشيات التي رفضت الانخراط في الجيش النظامي، وأجبرتها على الالتحاق به قسرًا، ومع ذلك لم تختفِ ثنائية "الميليشيات / الدولة" داخل المجتمع الإسرائيلي، فمنذ النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، اتجهت تل أبيب إلى تأسيس ميليشيات على علاقة "ملتبسة" بالجيش - مسؤولة وغير مسؤولة عنها في آن واحد - مثل ما يسمى بوحدة "الدوفدوفان"، وهي مزيج ضبابي وفضفاض من المتطوعين والجنود المحترفين والبدو في النقب عام 1986.

وميليشيات "الكتيبة الحريدية" التي تأسست عام 1999، والتي يتردد أنها تتبع "الوحدة 903" في الجيش الإسرائيلي، وهي مجرد تكهنات غير مؤكدة. ووحدة "الناحال"، التي كانت موجودة قبل تأسيس الدولة، وكذلك ميليشيات "كفير".

يبدو من خلال التقارير المتواترة التي كتبت عنها أنها تخضع بشكل ملتوٍ للقرار الأمني والعسكري للجيش، وهو ما جعلها تصاب بما أصاب الجيش من "تضخم" وترهل، كشفت عنه المقاومة في عملياتها الكبيرة يوم 7 أكتوبر 2023 وما بعدها. ولعل ذلك ما دفع وزير الأمن القومي المتطرف "إيتمار بن غفير" إلى تشكيل ميليشيات شعبية مستقلة في قرارها الأمني، أطلق عليها "فرق احتياطية" بلغت بحسب تعبيره 600 فرقة.

لا يسع أي مراقب إلا أن يرى أن تجربة المقاومة الفلسطينية في حربها الأخيرة (7 أكتوبر 2023 وما بعدها) أيًا كانت نتائجها، قد تكون ملهمة لتأسيس مرحلة "حروب ما بعد الجيوش النظامية"، وما يجعلها فرضية محتملة، أنها الأقل تكلفة على المستويين: الحقوقي والأخلاقي بالنسبة للدول والقوى الإقليمية الكبرى، وفي الوقت نفسه تعتبر أداة في يد الشعوب المستضعفة التي تتطابق قضيتها - من حيث المشروعية والعدالة - مع القضية الفلسطينية بكل تفاصيلها حاليًا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة